السيرة النبوية – 14 –
إزدادت إساءات قريش لمحمد بعد الإسراء
والمعراج، وردته كنده وكلب وعامر وبنو حنيفة لما عرض عليهم الإسلام في موسم الحج . ورأت القبائل المجاورة
لمكة ما صار إليه محمد من عزلة وما أحاطته قريش من عداوة فازدادت
إعراضا عنه.
ولكن عزيمة محمد
ظلت قوية، وزاده الإيمان بالحق الذي جاء به ربه سموا. وبقي هو وأصحابه من حوله واثقين
من نصرة الله لهم وإعلاء دينهم على الدين كله.
وبقي محمد
في مكة لا يغادرها غير آبه إن ذهب مال خديجة وماله، ولا يتطلع بروحه
الى شيئ غير النصر الذي لا ريب فيه. ولم يطل بمحمد الإنتظار أكثر من بضع
سنين حتى لاحت في الأفق تباشير الفوز آتية من يثرب.
كانت قبائل الأوس
والخزرج من عباد الأوثان في يثرب يجاورون اليهود جوارا شابه الكثير من
البغضاء. ويقال بأن المسيحيين في الشام أغاروا على يثرب ليقتلوا
يهودها لإعتقادهم بأنهم صلبوا المسيح. فاستعانوا بالأوس والخزرج وقتلوا
عددا غير قليل من اليهود. فارتفعت مكانة الأوس والخزرج في يثرب.
وفطن اليهود الى أن مقابلة القتال بالقتال لن تفدهم. فلجأوا الى سياسة الوقيعة
والتفريق بين القبيلتين، وبذلك أمنوا عدوانهم.
وكان اليهود
يعيبون على أهل يثرب عبادة الأوثان، وينذرونهم ببعث نبي سيقضي عليهم ويشايع
اليهود. ولم يقم اليهود بدعوة أهل يثرب
للدخول في ديانتهم لأنهم أولا لم يطمحوا
إلا لسلامة تجارتهم، وثانيا لأنهم يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار ولا يريدون
لدينهم أن يخرج من بني إسرائيل.
وكان كل من الأوس
والخزرج يلتمسون الحلف من قبائل العرب ليقاتل الآخر ، فزار أبو الحيسر أنس
بن رافع مكة ومعه مجموعة من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن
معاذ ودعاهم النبي للإسلام ولم يسلم منهم غير إياس.
وبعد وقعة بعاث
التي اقتتل فيها الأوس والخزرج قتالا شديدا، استعادت اليهود مكانتها بيثرب.
وفطن المنتصر والمهزوم من الأوس والخزرج سوء ما صنعوا وتطلعوا الى إقامة
ملك عليهم واختاروا عبدالله بن محمد إلا أن تطور الأحوال حال دون ذلك.
والتقى فريق من الخزرج
خلال موسم الحج في مكة بمحمد ودعاهم الى الله وأجابوا دعوته
وأسلموا.
وفي الموسم التالي
للحج جاء إثنا عشر رجلا من أهل يثرب والتقوا بالنبي بالعقبة، فبايعوه
بيعة العقبة الأولى.
بايعوه (1) : (على
ألا يشرك أحدهم بالله شيئا، ولا يسرق ولا يزني ، ولا يقتل أولاده، ولا يأتي ببهتان
يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصيه في معروف، فإن وفى ذلك فله الجنة، وإن غشي من
ذلك شيئا فأمره الى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.)
وأرسل النبي مصعب
بن عمير الى يثرب ليعلمهم الإسلام ويقرئهم القرآن ، ويفقهم في الدين.
وازداد إنتشار الإسلام في يثرب بعد بيعة العقبة.
ولما عاد مصعب الى
مكة قص على محمد أحوال المسلمين في المدينة وما هم عليه من
منعة وقوة وأنهم سيحضرون الى موسم الحج أكثر عددا وأعظم إيمانا بالله.
وفكر النبي
بعد أن سمع كلام مصعب أنه من الأفضل لو هاجر المسلمين الى المدينة
ليسلموا من أذى قريش وأن يهاجر هو أيضا.
وكان عدد الحجاج
من يثرب عام 622 كبيرا وكان من بينهم خمسة وسبعون مسلما منهم ثلاثة وسبعون
رجلا وإمرأتان. ففكر محمد أن يدعوهم الى بيعة ثانية والتقى بزعمائهم سرا .
وسنتحدث في
الأسبوع المقبل عن الأحوال في يثرب و العقبة الثانية...
(1)
حسين هيكل
، حياة محمد ص 202