السيرة النبوية (27)
لم
يهدأ بال لقريش منذ بدر، وقرر كبارها تجهيزجيش جرار في عدده وعدته لقتال محمد.
واتفقوا على استنفار القبائل لتشارك قريش في أخذهم بالثأر من المسلمين. وأصرت نسوة
قريش على أن يسرن مع الغزاة.
وخرجت
قريش في ثلاثة ألوية، على اللواء الأكبر طلحة بن أبي طلحة وهم ثلاث آلاف أغلبهم من
سادة مكة ومواليهم وليس بينهم غير مائة من ثقيف. وقادوا مائتي فرس وثلاثة آلاف
بعير، ومن بينهم سبعمائة دارع.
و
رافقت نساء قريش الجيش وعلى رأسهن هند وهي أشدهن على الثأر حرقة حيث قتل يوم بدر
أبوها وأخوها.
تهيأ
القوم للمسير ومعهم العباس بن عبدالمطلب عم النبي. وكان العباس على حرصه على دين
آبائه ودين قومه يذكر لمحمد حسن معاملته إياه يوم بدر. فكتب كتابا وصف فيه عدد
وعدة قريش وأرسله مع الغفاري الى النبي في المدينة.
وسارت
قريش حتى بلغت الأبواء حيث قبر آمنة بنت وهب ، ففكر بعض الطائشين بنبش القبر. إلا
أن زعماء قريش منعوهم من ذلك حتى لا تكون سنة عند العرب.
ووصل
الغفاري برسالة العباس الى محمد وهو في المسجد، فقرأه عليه أبي بن كعب وطلب منه
محمد أن لا يخبر أحد به.
أرسل
محمد أنس ومؤنس إبني فضال ليستعلما أخبار قريش، فوجدوا أنها قاربت المدينة وخيلها
وإبلها ترعى زروع يثرب.
وخشي
الأوس والخزرج وأهل المدينة عاقبة هذه الغزوة التي أعدت لها قريش خير ما أعدت له
في تاريخ حروبها.
وجمع
النبي أهل الرأي من المسلمين والمتظاهرين بالإسلام وتشاوروا كيف يلقون عدوهم .
وكانت فكرة النبي البقاء في
المدينة وإذا حاولت قريش اقتحامها كانوا أهلها أقدر على التغلب عليهم. ووافقه
عبدالله بن أبي سلول، وكذلك معظم أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار، إلا أن
فتيانا ذوي حمية لم يحضروا بدر، وبعض الرجال الذين شهدوا بدروملأ الإيمان
قلوبهم أحبوا الخروج وملاقاة العدو حيث نزل.
ولما
رأى النبي أن الأكثرية يقولون بالخروج الى العدو وملاقاته فلم يكن له بد الا أن
ينزل عند رأيهم....
وتقدم
محمد بالمسلمين متجها الى أحد حيث نزل الشيخين (1) ورأى الرسول كتيبة لا يعرف
أصلها فلما سأل عنها ، قالوا له هؤلاء حلفاء إبن أبي من اليهود.
فقال
النبي عليه السلام: (2) لا يستنصر بأهل شرك على أهل الشرك ما لم يسلموا. فانصرف
اليهود عائدين للمدينة وبقي النبي ومعه سيعمائة فقط ليقاتلوا ثلاثة ألاف من قريش.
واندفعت
قريش الى القتال يثور في عروقها طلب الثأر لمن مات من أشرافها وسادتها. ووقفت
قوتان غير متكافئتين في العدد ولا في العدة. يحرك الكثرة ثأر لا يهدأ، ويحرك الفئة
الثانية عاملان: الدفاع عن العقيدة والإيمان ودين الله والدفاع عن الوطن.
ودار
القتال بين الطرفين، والحق أن ظفر المسلمين في صبيحة أحد كان معجزة من معجزات
الحرب. وكادت نسوة قريش أن يؤخذن أسرى ، لكن إنشغال المسلمين بالغنيمة وترك الرماة
الشعب التي أمرهم الرسول عدم مبارحتها.
فانتهز
الفرصة خالد بن الوليد الذي كان على فرسان مكة ، فشد برحاله مكان الرماة فأجلاهم ،
ولم ينتبه المسلمون الذين إنشغلوا بالغنائم. ودارت الدائرة وترك كل مسلم ما بيده
وحمل سيفه لكن بعد فوات الأوان.
وصاح
أحدهم إن محمد قد قتل ، فازدادت الفوضى واختلف المسلمون وصاروا يضربون بعضهم بعضا.
وسارعت قريش لما سمعت بموت محمد وكل واحد يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به
ما يفاخر به الأجيال.
وأصاب
حجر رماه عتبة بن أبي وقاص محمد، لكنه تمالك وسار مع أصحابه ثم وقع في حفرة حفرها
أبو عامر، فأسرع على بن أبي طالب ورفعه وساروا متسلقين أحد ناجين من العدو.
أما
قريش ففرحت بنصرها وحسبت أنها انتقمت لبدر. وأما هند فلم يكفها النصر ومقتل حمزة،
بل انطلقت مع النسوة يمثلن في جثث القتلى. وبقرت بطن حمزة وأخرجت كبده وجعلت
تلوكها الى درجة أن أبوسفيان تبرأ من عملها وأعلن أنه لم يأمر به.
وغضب
محمد غضبا شديدا لما رأى ما فعلته قريش بعمه وقال: (3) "لن أصاب بمثلك أبدا.
ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا". وقال: "والله لئن أظهرنا عليهم يوما
من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب".
وفي
هذا نزل قوله تعالى: (4)" وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ
إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ " فعفى رسول الله ونهى عن المثلة.
ولما
عاد النبي الى بيته وجعل يفكر وهو يرى سرور اليهود والمنافقين والمشركين لهزيمته رأى
أنه يجب أن يضرب ضربة جريئة تخفف من هزيمة وقعة أحد.
أذن
مؤذن النبي في المسلمين بطلب العدو واستنفرهم لمطاردته على أن لا يخرج إلا من حضر
الغزوة. لكن أبو سفيان وقريش آثروا البقاء على نصرهم في أحد خاصة وأنهم سمعوا أن
محمد وأصحابه وكل من تخلف عنه جاءوا للثأر من قريش.
(1)
الشيخان: موضع
(2)
محمد حسين هيكل ، حياة
محمد ص 292
(3)
نفسه ص 301
(4)
سورة النحل أيات 126 ، 127
No comments:
Post a Comment