السيرة النبوية (26)
ما كاد المسلمون يعودون من بدر معززين
بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة ، اليهود والمشركون والمنافقون تتغامز وتأتمر وترسل
الأشعار بالتحريض عليهم. وشعروا بقوة محمد الذي أتاهم مهاجرا منذ أقل من عامين
فارا من مكة، فأصبح ذا سلطان وبأسا.
وبذلك انتقل ميدان الثورة من مكة الى
المدينة، وانتقل من الدين الى السياسة. ولم تعد دعوته تحارب فقط، بل سلطانه ونفوذ
أمره أصبح موضع الرهبة والخوف.
وكان المسلمون قبل بدر يخشون أهل المدينة
ولا يجرؤا على الرد على اعتداءاتهم. فلما عادوا منتصرين ازدادوا قوة أخذ سالم بن
عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك ( أحمد بن عمرو بن عوف )الذي كان يرسل الأشعار
ويطعن في محمد وقتل أيضا عصماء بنت مروان التي كانت تؤذي الرسول وتحرض عليه.
وزاد مقتل كعب بن الأشرف مخاوف اليهود، ومع
ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين. فوقع الشر بين المسلمين وبني قينقاع إثر
تحرش يهودي بإمرأة عربية أدى الى مقتل واحد من اليهود وآخر من العرب.
فطلب محمد من بني قينقاع أن يكفوا عن أذى
المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش.
إلا أنهم استخفوا بوعيده وأجابوه: (1)"
لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم
وإنا والله لئن حاربتنا حاربناك لتعلمن إنا نحن الناس"
فحاصر المسلمون بني قينقاع في دورهم لمدة
خمسة عشر يوما. وشفع لهم عبدالله بن أبي سلول ، فقرر الرسول أجلاءهم عن المدينة.
وبجلاء بني قينقاع عن المدينة ضعفت شوكة
اليهود . ويعتبر الكاتب أن إجلاءهم كان تصرف سياسي يدل على حكمة وبعد نظر. فليس
شيء أضر على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. ..
ويزيد الكاتب أن بعض المؤرخين انتقدوا قرار
إجلاء بني قينقاع زاعمين أن قصة المرأة التي تحرش بها أحد اليهود كان ممكن إنهاؤها
ما دام قد قتل رجل من المسلمين وآخر من اليهود. إلا أن الكاتب يؤكد أن قتل اليهودي
والمسلم لم يمح ما لحق بالمسلمين من إهانة في شخص المرأة ، وإن مثل هذه المسألة
عند العرب أكثر منها عند غيرهم من الأمم.
وساد الهدوء لمدة شهر إلا أن أبا سفيان جمع
مائتين وقيل أربعين من رجال مكة وخرج بهم الى مكان قريب من المدينة (العريض)
وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له وحرقوا
بيتين بالعريض ونخيلا وهربوا بعد أن لحق بهم أصحاب محمد تاركين وراءهم ما كانوا
يحملون من زاد.
انتشرت أنباء نصر محمد بين العرب ووقوفه في
وجه قريش ومطاردته لأبي سفيان وإجلاء بني قنيقاع ، أما
القبائل البعيدة عنه ظلت في مأمن ، لكن
القبائل القريبة من المدينة خشيت على
مصيرها من قوة محمد وأصحابه، خاصة بعد أن عدلت قريش مسار تجارتها المتاخمة للشاطيء
وكانت تلك القبائل تستفيد من مرور قوافل قريش عبر أراضيها.
وكذلك الحال بالنسبة لقريش ، فكيف تصل
بتجارتها الى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها. وقد اقترح الأسود بن عبد المطلب
على قريش ان تتخذ طريق العراق الى الشام .
فجهز صفوان بن أمية من الفضة والبضائع ما
قيمته مائة ألف درهم وسار بها عن طريق العراق الى الشام ، وعلم محمد عن طريق نعيم
بن مسعود الأشجعي الذي كان في مكة حين خروج تجارة قريش. فأرسل زيد بن حارثة في
مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففر الرجال وكانت أول غنيمة
ذات قيمة غنمها المسلمون.
وسنتحدث في الحلقة القادمة عن معركة أحد...
(1)محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 279
No comments:
Post a Comment