السيرة النبوية
(19)
كتب محمد بين
المهاجرين والأنصار كتابا واعد فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم. اعتبرت
هذه الوثيقة السياسية الي وضعها محمد قبل الف واربعمائة وسبع وثلاثين عاما فتحا
جديدا في الحياة السياسية والحياة المدنية في عالم كان يسود فيه الظلم والإستبداد.
فكفلت الوثيقة
حرية العقيدة واستقلال الذمة المالية لكل من المسلمين واليهود (1) : (وان يهود بني
عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم
أو أثم فإنه لا يوتغ(يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وأن ليهود بني النجار ويهود بني
الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جشم ويهود بني الأوس ويهود بني ثعلبة ولجفنة
ولبنى الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف) وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
(2) وأن اليهود ينفقون مع المسلمين ما داموا محاربين. وأن يثرب حرام جوفها لأهل
هذه الصحيفة.
وأكدت الوثيقة على
العدل والمرجعية في حال قيام الإختلاف أو
الشجار فإن مرده الى الله والى محمد رسول الله ، نادت بالنصح والنصيحة فيما بينهم
والبر دون الإثم.....
وإن لم يشترك في
توقيع هذه الوثيقة من اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع إلا أنهم ما لبثوا
بعد قليل أن وقعوا بينهم وبين النبي صحفا مثلها.
وفي هذه الفترة
تزوج النبي بعائشة بنت أبي بكر، وتم فرض الزكاة والصيام وصار ينادى للصلاة بالأذان.
وانقلبت مخاوف المسلمين أمنا، وأصبحت يثرب مدينة الرسول، وصار غير المسلمين من
أهلها يشعرون بقوة المسلمين المنبعثة من قلوب عرفت معنى التضحية في سبيل الإيمان
وذاقت الأذى بسببه.
وأصبح المجال
مفتوحا أمام محمد ليضع حجر الأساس للحضارة الإسلامية، والذي كان أساسه الإخاء
الإنساني.
سأل رجل محمد(3):
أي الإسلام خير؟؟ فقال: " تطعم
الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"
وفي أول خطبة ألقاها
الرسول في المدينة قال: "من استطاع
أن يقي وجهة من النار ولو بشقة من تمر فليفعل ومن
لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها"
وفي الخطبة
الثانية قال:" اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوه حق تقاته، واصدقوا
الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم، أن الله يغضب أن ينكث عهده".
ولم تكن أقوال
النبي وحدها دعامة الدعوة الى الإخاء ، بل
كانت أعماله وكان مثله هو هذا الإخاء، فكان يرفض الظهور بمظاهر السلطان ، وكان
يمازح أصحابه ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد
والأمة والمسكين، ويعود المرضى ويبدأ من لقيه بالسلام.
وكان في بيته يطهر
ثوبه ويرقعه ويحلب شاته، ويخدم نفسه ويعقل بعيره ويأكل مع الخادم ويقضي حاجة
الضعيف والبائس والمسكين. ولم يكن يدخر شيئا لغده حتى أنه توفي ودرعه مرهونة عند
يهودي في قوت عياله.
وكان جم التواضع،
شديد الوفاء، وبلغ من وفائه أنه ما ذكرت خديجة إلا ذكرها أطيب الذكر، حتى كانت
عائشة تقول(4): ما غرت من إمرأة ما غرت من خديجة.
ولم يقف البر
والرحمة اللذين جعلها دعامة الإخاء الذي قامت عليه الحضارة الجديدة على أساسه على
الإنسان بل عداهما الى الحيوان، فكان يقوم بنفسه فيفتح الباب لهرة تلمس عنده ملجأ،
وكان يمسح لجواده بكم قميصه. وطلب من عائشة أن ترفق ببعير كانت تركبه.
سنتابع في الأسبوع
المقبل بدايات الحياة في المدينة...
(1)
محمد
حسين هيكل ، حياة محمد ص 226
(2)
نفسه
ص 227
(3) = ص 229
(4) = ص 230
No comments:
Post a Comment