Friday, December 23, 2016

السيرة النبوية




السيرة النبوية (27)

لم يهدأ بال لقريش منذ بدر، وقرر كبارها تجهيزجيش جرار في عدده وعدته لقتال محمد. واتفقوا على استنفار القبائل لتشارك قريش في أخذهم بالثأر من المسلمين. وأصرت نسوة قريش على أن يسرن مع الغزاة.

وخرجت قريش في ثلاثة ألوية، على اللواء الأكبر طلحة بن أبي طلحة وهم ثلاث آلاف أغلبهم من سادة مكة ومواليهم وليس بينهم غير مائة من ثقيف. وقادوا مائتي فرس وثلاثة آلاف بعير، ومن بينهم سبعمائة دارع.
و رافقت نساء قريش الجيش وعلى رأسهن هند وهي أشدهن على الثأر حرقة حيث قتل يوم بدر أبوها وأخوها.

تهيأ القوم للمسير ومعهم العباس بن عبدالمطلب عم النبي. وكان العباس على حرصه على دين آبائه ودين قومه يذكر لمحمد حسن معاملته إياه يوم بدر. فكتب كتابا وصف فيه عدد وعدة قريش وأرسله مع الغفاري الى النبي في المدينة.
وسارت قريش حتى بلغت الأبواء حيث قبر آمنة بنت وهب ، ففكر بعض الطائشين بنبش القبر. إلا أن زعماء قريش منعوهم من ذلك حتى لا تكون سنة عند العرب.

ووصل الغفاري برسالة العباس الى محمد وهو في المسجد، فقرأه عليه أبي بن كعب وطلب منه محمد أن لا يخبر أحد به.
أرسل محمد أنس ومؤنس إبني فضال ليستعلما أخبار قريش، فوجدوا أنها قاربت المدينة وخيلها وإبلها ترعى زروع يثرب.

وخشي الأوس والخزرج وأهل المدينة عاقبة هذه الغزوة التي أعدت لها قريش خير ما أعدت له في تاريخ حروبها.

وجمع النبي أهل الرأي من المسلمين والمتظاهرين بالإسلام وتشاوروا كيف يلقون عدوهم . وكانت فكرة النبي البقاء في المدينة وإذا حاولت قريش اقتحامها كانوا أهلها أقدر على التغلب عليهم. ووافقه عبدالله بن أبي سلول، وكذلك معظم أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار، إلا أن فتيانا ذوي حمية لم يحضروا بدر، وبعض الرجال  الذين شهدوا بدروملأ الإيمان قلوبهم أحبوا الخروج وملاقاة العدو حيث نزل.

ولما رأى النبي أن الأكثرية يقولون بالخروج الى العدو وملاقاته فلم يكن له بد الا أن ينزل عند رأيهم....
وتقدم محمد بالمسلمين متجها الى أحد حيث نزل الشيخين (1) ورأى الرسول كتيبة لا يعرف أصلها فلما سأل عنها ، قالوا له هؤلاء حلفاء إبن أبي من اليهود.
فقال النبي عليه السلام: (2) لا يستنصر بأهل شرك على أهل الشرك ما لم يسلموا. فانصرف اليهود عائدين للمدينة وبقي النبي ومعه سيعمائة فقط ليقاتلوا ثلاثة ألاف من قريش.

واندفعت قريش الى القتال يثور في عروقها طلب الثأر لمن مات من أشرافها وسادتها. ووقفت قوتان غير متكافئتين في العدد ولا في العدة. يحرك الكثرة ثأر لا يهدأ، ويحرك الفئة الثانية عاملان: الدفاع عن العقيدة والإيمان ودين الله والدفاع عن الوطن.
ودار القتال بين الطرفين، والحق أن ظفر المسلمين في صبيحة أحد كان معجزة من معجزات الحرب. وكادت نسوة قريش أن يؤخذن أسرى ، لكن إنشغال المسلمين بالغنيمة وترك الرماة الشعب التي أمرهم الرسول عدم مبارحتها.
فانتهز الفرصة خالد بن الوليد الذي كان على فرسان مكة ، فشد برحاله مكان الرماة فأجلاهم ، ولم ينتبه المسلمون الذين إنشغلوا بالغنائم. ودارت الدائرة وترك كل مسلم ما بيده وحمل سيفه لكن بعد فوات الأوان.

وصاح أحدهم إن محمد قد قتل ، فازدادت الفوضى واختلف المسلمون وصاروا يضربون بعضهم بعضا. وسارعت قريش لما سمعت بموت محمد وكل واحد يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به ما يفاخر به الأجيال.
وأصاب حجر رماه عتبة بن أبي وقاص محمد، لكنه تمالك وسار مع أصحابه ثم وقع في حفرة حفرها أبو عامر، فأسرع على بن أبي طالب ورفعه وساروا متسلقين أحد ناجين من العدو.

أما قريش ففرحت بنصرها وحسبت أنها انتقمت لبدر. وأما هند فلم يكفها النصر ومقتل حمزة، بل انطلقت مع النسوة يمثلن في جثث القتلى. وبقرت بطن حمزة وأخرجت كبده وجعلت تلوكها الى درجة أن أبوسفيان تبرأ من عملها وأعلن أنه لم يأمر به.

وغضب محمد غضبا شديدا لما رأى ما فعلته قريش بعمه وقال: (3) "لن أصاب بمثلك أبدا. ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا". وقال: "والله لئن أظهرنا عليهم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب".
وفي هذا نزل قوله تعالى: (4)"  وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ "  فعفى رسول الله ونهى عن المثلة.

ولما عاد النبي الى بيته وجعل يفكر وهو يرى سرور اليهود والمنافقين والمشركين لهزيمته رأى أنه يجب أن يضرب ضربة جريئة تخفف من هزيمة وقعة أحد.
أذن مؤذن النبي في المسلمين بطلب العدو واستنفرهم لمطاردته على أن لا يخرج إلا من حضر الغزوة. لكن أبو سفيان وقريش آثروا البقاء على نصرهم في أحد خاصة وأنهم سمعوا أن محمد وأصحابه وكل من تخلف عنه جاءوا للثأر من قريش.



(1)  الشيخان: موضع
(2) محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 292
(3) نفسه ص 301
(4) سورة النحل أيات 126 ، 127  


Tuesday, November 29, 2016

السيرة النبوية



السيرة النبوية (26)

ما كاد المسلمون يعودون من بدر معززين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة ، اليهود والمشركون والمنافقون تتغامز وتأتمر وترسل الأشعار بالتحريض عليهم. وشعروا بقوة محمد الذي أتاهم مهاجرا منذ أقل من عامين فارا من مكة، فأصبح ذا سلطان وبأسا.
وبذلك انتقل ميدان الثورة من مكة الى المدينة، وانتقل من الدين الى السياسة. ولم تعد دعوته تحارب فقط، بل سلطانه ونفوذ أمره أصبح موضع  الرهبة والخوف.


وكان المسلمون قبل بدر يخشون أهل المدينة ولا يجرؤا على الرد على اعتداءاتهم. فلما عادوا منتصرين ازدادوا قوة أخذ سالم بن عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك ( أحمد بن عمرو بن عوف )الذي كان يرسل الأشعار ويطعن في محمد وقتل أيضا عصماء بنت مروان التي كانت تؤذي الرسول وتحرض عليه.
وزاد مقتل كعب بن الأشرف مخاوف اليهود، ومع ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين. فوقع الشر بين المسلمين وبني قينقاع إثر تحرش يهودي بإمرأة عربية أدى الى مقتل واحد من اليهود وآخر من العرب.
فطلب محمد من بني قينقاع أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش.
إلا أنهم استخفوا بوعيده وأجابوه: (1)" لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم  
  وإنا والله لئن حاربتنا حاربناك لتعلمن إنا نحن الناس"

فحاصر المسلمون بني قينقاع في دورهم لمدة خمسة عشر يوما. وشفع لهم عبدالله بن أبي سلول ، فقرر الرسول أجلاءهم عن المدينة.
وبجلاء بني قينقاع عن المدينة ضعفت شوكة اليهود . ويعتبر الكاتب أن إجلاءهم كان تصرف سياسي يدل على حكمة وبعد نظر. فليس شيء أضر على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. ..


ويزيد الكاتب أن بعض المؤرخين انتقدوا قرار إجلاء بني قينقاع زاعمين أن قصة المرأة التي تحرش بها أحد اليهود كان ممكن إنهاؤها ما دام قد قتل رجل من المسلمين وآخر من اليهود. إلا أن الكاتب يؤكد أن قتل اليهودي والمسلم لم يمح ما لحق بالمسلمين من إهانة في شخص المرأة ، وإن مثل هذه المسألة عند العرب أكثر منها عند غيرهم من الأمم.
وساد الهدوء لمدة شهر إلا أن أبا سفيان جمع مائتين وقيل أربعين من رجال مكة وخرج بهم الى مكان قريب من المدينة (العريض) وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له  وحرقوا بيتين بالعريض ونخيلا وهربوا بعد أن لحق بهم أصحاب محمد تاركين وراءهم ما كانوا يحملون من زاد.
انتشرت أنباء نصر محمد بين العرب ووقوفه في وجه قريش ومطاردته لأبي سفيان وإجلاء بني قنيقاع ، أما
القبائل البعيدة عنه ظلت في مأمن ، لكن القبائل القريبة من المدينة  خشيت على مصيرها من قوة محمد وأصحابه، خاصة بعد أن عدلت قريش مسار تجارتها المتاخمة للشاطيء وكانت تلك القبائل تستفيد من مرور قوافل قريش عبر أراضيها.


وكذلك الحال بالنسبة لقريش ، فكيف تصل بتجارتها الى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها. وقد اقترح الأسود بن عبد المطلب على قريش ان تتخذ طريق العراق الى الشام .
فجهز صفوان بن أمية من الفضة والبضائع ما قيمته مائة ألف درهم وسار بها عن طريق العراق الى الشام ، وعلم محمد عن طريق نعيم بن مسعود الأشجعي الذي كان في مكة حين خروج تجارة قريش. فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففر الرجال وكانت أول غنيمة ذات قيمة غنمها المسلمون.
وسنتحدث في الحلقة القادمة عن معركة أحد...

(1)محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 279

Saturday, November 5, 2016

السيرة النبوية




السيرة النبوية (25)

بدأ المسلمون يتسائلون في الغنيمة لمن تكون، هل هي من حق من جمعها ؟؟ أو من طارد العدو أو من كان يحرس النبي؟؟؟ فأمر الرسول الناس أن يردوا كل ما في أيديهم من الغنائم، وأمر أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضي الله بقضاءه.
واختلف المؤرخون في قضية تقسيم الغنائم ، فقسم قال ان النبي قسمها بينهم وأخذ الخمس لقوله تعالى: (1) (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (
وقسم آخر قال ان هذه السورة نزلت بعد بدر وبعد تقسيم الغنائم، وأن محمد قسم الغنائم بالتساوي بين المسلمين.
الأسرى : لم يكن النبي ولا أصحابه قد وضعوا نظاما للأسرى.  فلقد تم قتل أثنين من الأسرى النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وكانا من اشد الناس  قساوة على المسلمين أيام مقامهم في مكة.
وفرق محمد الأسرى بين أصحابه وقال لهم:استوصوا بهم خيرا. وفكر محمد ماذا يفعل بالأسرى، أفيقتلهم، أم يأخذ منهم الفداء. فمنهم الأشداء في القتال ومنهم من امتلأت نفوسهم بالحقد والضغينة بعد هزيمتهم ببدر. فإن قبل بالفداء  كانوا عليه حربا وألبا... وإن قتلهم أثار في نفوس أهليهم من قريش ما ربما هدأ لو أنهم افتدوهم.
وعرض الأمر على المسلمين فقال أبو بكر:يا رسول الله بأبي أنت وأمي قومك فيهم الآباء والأبناء والعمومة وبنو العم والأخوان وأبعدهم منك قريب. فامنن عليهم من الله عليك أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار.
أما عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هم أعداء الله، فاضرب رقابهم، هم روؤس الكفر وأئمة الضلالة يوطيء الله بهم الإسلام ويذل بهم أهل الشرك. ولم يجب محمد.
وعاد أبو بكر يتلطف ويستعطف وعمر مثال العدل الصارم لا تأخذه فيه هوادة ولا رحمة.
فقام محمد ودخل قبته وخرج بعد ساعة والمسلمون منقسمين ما بين عمر وأبو بكر. وظل المسلمون في تشاورهم زمنا طويلا حتى انتهوا الى قبول الفداء.
ويقول الكاتب ان عددا من المستشرقين اعتبروا مقتل النضر وعقبة يدل على ظمأ هذا الدين الجديد الى الدم وأنه كان أكرم للمسلمين بعد أن كسبوا المعركة أخذ  الغنائم ورد الأسرى.
ويرد الكاتب قائلا بأن تساؤل هؤلاء المستشرقين ينهار ويتداعى إذا ما وازنا بيت مقتل النضر وعقبة وما يجري اليوم( الكتاب طبع عام 1956 ) أو مايجري الآن........2016 
ويزيد الكاتب قائلا إن ما صنع المسلمون بأسرى بدر آية في الرحمة والحسنى الى جانب ما يقع في الثورات التي يتغنى أهلها بالعدل الرحمة.
أما قريش فلقد ذهلت بخبر نصر محمد ومقتل سادة قريش وأشرافها حتى أن أبو لهب حم ومات بعد سبعة ايام.
وقررت قريش أن لا تنوح قتلاها مخافة ان يشمت بهم محمد وأصحابه وأن لا تبعث.. في أسراها حتى لا يتشدد عليها محمد  وأصحابه ويغلوا في الفداء.
وصبرت قريش حتى سنحت فرصة افتداء أسراها فقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو وبعثت زينب إبنة النبي تفتدي زوجها أبا العاصي بقلادة لها. فاستشار النبي أصحابه واتفق على أن يفارق العاصي زينب وقد فرق الإسلام بينه وبينها.
واستمرت قريش تفتدي أسراها، وكان الفداء يومئذ  من أربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف، إلا من لا شيء لديه فقد من عليه بحريته.
وناحت نساء قريش على قتلاها شهرا كاملا الا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان التي قتل والدها وأخيها وعمها. وقالت  أنا أبكيهم فيبلغ محمد وأصحابه فيشمتوا بنا وتشمت بنا نساء الخزرج.. لا والله حتى أثأر من محد وأصحابه والدهن على حرام حتى نغزو محمدا.



(1) سورة الأنفال آية 41 

Thursday, October 27, 2016

السيرة النبوية




السيرة النبوية (24)

غزوة بدر الكبرى


كانت سرية عبدالله بن جحش التي قتل فيها عمرو بن الحضرمي من قبل  واقد بن عبدالله التميمي  مفترق طرق في سياسة الاسلام ، وكذلك في سياسة المسلمين إزاء قريش.  فقد بدأ المسلمون يفكرون جديا في استرجاع أموالهم من قريش بالغزو والقتال.

خرج النبي في أصحابه من المدينة في الثامن من رمضان من السنة الثانية للهجرة. وكان أمام المسلمين في مسيرتهم رايتان سوداوان... وخرج مع محمد  حوالي ثلاثمائة رجل منهم ثلاثة وثمانون من المهاجرين وواحد وستون من الأوس والبقية من الخزرج. انطلقوا مسرعين مع سبعين بعيرا خوفا من أن يفلت منهم أبي سفيان الذي كان عائدا في تجارة من الشام.

وكان أبو سفيان قد علم بخروج محمد لاعتراض قافلته، فأرسل الى ضمضم  بن عمروالغفاري ليستنفر قريشا الى أموالهم، ولما وصل الى بطن الوادي صاح(1): " يا معشر قريش: اللطيمة اللطيمة ،، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أرى أن تدركوها"...فخرجت قريش كلها وعلى رأسها أشرافها للدفاع عن تجارتها.


استشار محمد الناس بما بلغه من أمر قريش فأدلى أبو بكر وعمر بن الخطاب برأيهما ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله إمض لما أراك الله فنحن معك.." وسكت الناس فقال الرسول أشيروا علي أيها الناس وكان يقصد الأنصار. فلما أحسوا انه يريدهم، قال له سعد بن معاذ صاحب رايتهم: وكأنك تريدنا يا رسول الله.. قال الرسول : أجل.
فأجاب سعد: " لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق .. فامض لما أردت ونحن معك."

بعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه الى ماء بدر يتلمسون له الخبر عليه. فعادوا ومعهم غلامان عرف منهما أن قريش وراء الكثيب بالعدوة القصوى.
فسألهم عن عددهم فقالوا إنهم لا يعرفون. فسألهم كم ينحرون كل يوم. فأجابا يوم تسعا ويوما عشرا. فاستنبط  من ذلك أنهم بين التسعمائة والألف.
لكن أبو سفيان عندما علم بخروج المسلمين غير طريقه واسرع في مسيره حتى بعد ما بينه مبين محمد ونجا.

وفي اليوم التالي وصلت الأخبار للمسلمين بأن قافلة أبو سفيان قد نجت وفاتهم قتال قريش. انقسم المسلمون الى فريقين، فريق يريد العودة للمدينة، وآخر كان يأمل بالغنائم وفي ذلك نزل قوله تعالى(2):  
"وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ"

وكذلك الحال بالنسبة لقريش، إذ عندما نجت تجارتهم أرسل أبو سفيان يقول لهم: " إنكم قد خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، أما وقد نجاها الله فارجعوا".
لكن أبا جهل صاح قائلا: "والله لا نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم عليها ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا. 

وقرر المسلمون أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم. فاتجهوا إلى ماء بدر وأنزل الله في تلك الليلة أمطارا غزيرة. وبناء على نصيحة الحباب بن المنذر بنى المسلمون حوضا ملأوه بالماء. وتم إعداد عريش  للنبي على تل مشرف على أرض المعركة  كما أشار عليهم سعد بن معاذ.

والتقى الجمعان صبيحة الجمعة لسبعة عشر خلت من رمضان. وقام محمد على رأس المسلمين يعدل صفوفهم ، ولما رأى كثرة عدد المشركين عاد الى العريش مع أبي بكر واتجه بكل نفسه الى ربه وجعل ينشده ما وعده ويهتف به أن يتم له النصر. وظل يتضرع الى ربه حتى خفق خفقة  من نعاس رأى خلالها نصر الله.
وخرج الى الناس يحرضهم قائلا (3): " والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا معتبرا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة" 
وازداد المسلمون قوة بتحريض محمد ووقوفه بينهم. ووجه المسلمون أكبر همهم الى سادات قريش وزعمائها. ورأى بلال أمية بن خلف وإبنه، وكان أمية هو الذي عذب بلال ، فصاح بلال : أمية رأس الكفر لا نجوت إن نجا.. ولم ينصرف بلال حتى قتل أمية. وقتل معاذ بن الجموح أبو جهل بن هشام.
ووقف محمد وسط هذا الوطيس  ، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريش وقال: شاهت الوجوه، ثم نفخهم بها وقال شدوا. وفي ذلك نزل قوله تعالى (4): "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ " 


و قوله تعالى (5):
"فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "


وعاد النبي الى العريش وفرت قريش، فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يقتل ولم يسعفه حسن قراره بالنجاة.
وهكذا كانت غزوة بدر مقدمة وحدة شبه الجزيرة في ظلال الإسلام ومقدمة للإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف.
وسنتحدث فيما بعد عن الأسرى والغنائم وتوزيعها بعد معركة بدر.



(1)   محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 260
(2)   سورة الأنفال ، آية 7
(3)   محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 264
(4)   سورة الأنفال ، آية 12
(5)   سورة الأنفال ، آية 17



Thursday, September 8, 2016

السيرة النبوية





السيرة النبوية (23)

يقول الكاتب بأنه من الممكن أن محمد كان يرمي من وراء إرسال هذه السرايا والرحلات المسلحة إرهاب اليهود المقيمين في المدينة ، علما بأن الإسلام لم يكن ينكر القتال دفاعا عن النفس ودفاعا عن العقيدة.
لكن الإسلام كان ينكر حرب الإعتداء (1):"ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"
وإذا كان للمهاجرين ما يبيح لهم اقتضاء ما حجزت قريش من أموالهم عند الهجرة ، فإن دفع فتنة المؤمنين عن دينهم كان أكبر عند الله ورسوله وكان الغاية الأولى التي شرع من أجلها القتال.
والدليل على ذلك الآيات التي نزلت في سرية عبدالله بن جحش الأسدي الذي أرسله محمد في سرية في رجب من السنة الثانية للهجرة وأعطاه كتابا طلب منه أن لا يقرأه إلا بعد يومين من مسيره. ولما فتحه وجده يقول: (إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا أخبارهم)
ومرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي، وكان يومئذ آخر رجب . وتذكر عبدالله بن جحش ومن معه ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم فتشاوروا. فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين من قريش.
ولما وصلوا المدينة حجزوا من مغنمهم الخمس لمحمد . لكنه لم رآهم قال لهم:" ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" ، وأبى أن يأخذ منه شيئا وعنفهم إخوانهم من المسلمين.
وانتهزت قريش الفرصة ونادت في كل مكان بأن محمد وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا الرجال، ودخلت يهود تريد إشعال الفتنة.
وإذ ذاك نزل قوله تعالى)  2): يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وقبض محمد العيروالأسيرين افتدتهما منه قريش  بسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان اللذان تركا عبدالله بن جحش يطلبان بعيرا لهما ضل وتم أسرهما من قبل قريش.
فكما نرى هنا أن القرآن الكريم أجاب المشركين عن سؤالهم عن القتال في الشهر الحرام وأقرهم على أنه كذلك ..لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر ألا وهو الصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الرجل عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر من القتل.
ويقول الكاتب (3)  إن سرية عبدالله بن جحش  وهذه الآية الكريمة التي نزلت فيها ، هي مفترق طرق في سياسة الإسلام. حادث جديد في نوعه يدل على روح قوي في سموه، إنساني في قوته، ينتظم نواحي الحياة المادية والمعنوية والروحية كأشد ما يكون النظام قوة ورفعة وتوجها الى الكمال.
فالقرآن يقول ان القتال في الشهر الحرام من الكبائر ، لكن هناك ما هو أكبر منه. فالصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهرالحرام.
ويقول الكاتب (4): "إذا أراد أحد أن يفتن رجلا عن رأيه بالدعاية وبالمنطق دون أن يحمله على ترك هذا الرأي بالقوة وبغير القوة من وسائل الرشوة والتعذيب، لم يكن لأحد أن يدفع هذا الرجل إلا بإدحاض حجته وتفنيد منطقه. لكن إذا حاول بالقوة المسلحة أن يصد صاحب رأي عن رأيه، وجب دفع القوة المسلحة بالقوة المسلحة متى استطاع الإنسان لها سبيلا. ذلك بأن كرامة الإنسان تتلخص في كلمة واحدة: عقيدته. فالعقيدة أثمن من المال ومن الجاه والسلطان ومن الحياة نفسها."
وسنتحدث في الأسبوع القادم عن غزوة بدر الكبرى إن شاءالله
(1) سورة البقرة آية 190  
(2) سورة البقرة آية 217
(3) محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص 250
(4) المصدر السابق  ص  252

http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura2-aya217.html