Friday, August 19, 2016

السيرة النبوية





السيرة النبوية (21 ) 


يقول السيد ابي الحسن الندوي(1)  إن ظهور  النفاق والمنافقين في المدينة المنورة كان نتيجة وجود دعوتين متنافستين  وقيادتين متقابلتين، بعكس الوضع في مكة حيث لم تكن هناك قوتان متماثلتان، فلقد كان الإسلام مغلوبا على أمره وكان المشركون الأقوياء القاهرون والمؤمنون المضطهدون المستضعفين وجاء في قوله تعالى: (2)" واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس"
وكان عبد الله بن أبي سلول على رأس هؤلاء المنافقين الذين كانوا من الأوس والخزرج واليهود. إذ كانوا قد اتفقوا على أن يتوجوه ملكا عليهم ولما جاء الإسلام انصرف قومه عنه الى الإسلام. فدخل في الإسلام كارها مصرا على نفاق وضغن. وعادى الإسلام كل من كان في  قلبه مرض وفي السيادة طمع.
وفي هذه الأثناء بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه، إذ كانوا يطمعون أنه بعد العهد الذي عقدوه معه أن يضموه الى صفوفهم وأن يزدادوا به على النصارى منعة وقوة.
هل كان من الممكن أن يتركوا دعوته تنتشر مكتفين بالأمن في جواره على تجارتهم وثرواتهم؟؟ لعل ذلك كان ممكنا لو أنهم أمنوا أن لا تمتد دعوته الى اليهود، فلقد أسلم حبرا عالما من كبار أحبارهم وعلمائهم وهو عبدالله بن سلام وأمر أهل بيته فأسلموا. وكان قد طلب من الرسول أن يسأل اليهود عنه قبل أن يعلموا بإسلامه. فقالوا إنه سيدنا وإبن سيدنا وحبرنا وعالمنا. ولما علموا بإسلامه أذاعوا عنه السوء وأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا لمحمد وينكرون نبوته.
وهنا بدأت  (3) حرب جدل بين محمد واليهود وتعاونت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين، أقامتها اليهود جميعا صفوفا متراصة يهاجمون بها محمد ورسالته وأصحابه  المهاجرين والأنصار. 
ودسوا من أحبارهم من أظهر إسلامه وأصبح يجلس بين المسلمين يظهر غاية التقوى ثم يبدي الشكوك والريب  ويلقي على محمد من الأسئلة ما يحسبه يزعزع في أنفس المسلمين وعقيدتهم به وبرسالة الحق. وانضم الى اليهود جماعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا نفاقا.

ولم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج ، بل حاولوا فتنة محمد نفسه، ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا الى محمد قائلين (4) " إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وإنا إن إتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك"

فنزل بهم قوله تعالى (5):
"وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون"
ضاق اليهود بمحمد فحاولوا أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلاه أذى قريش وهو وأصحابه عن مكة. فقالوا له إن من سبقه من الرسل ذهبوا الى بيت المقدس.
لكن محمد عرف أنهم يمكرون به. ثم أوحى الله إليه بعد سبعة عشر شهرا من مقامه في المدينة أن يجعل قبلته الى المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل ونزلت الآية التالية (6) :
"قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره "
وحاول اليهود فتنة محمد مرة أخرى بوعدهم له بإتباعه إن هو رجع الى قبلته . فنزلت الآية (7)
" سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء الى صراط مستقيم، وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله".  

وفي هذا الوقت جاء الى المدينة وفد من نصارى نجران،  ولعل هذا الوفد جاء الى المدينة لما علم بما بين محمد واليهود من خلاف طمعا فى أن يزيد الخلاف فتستريح النصرانية في الشام واليمن من دسائس اليهود وعدوان العرب. واجتمعت الأديان الكتابية الثلاثة بمجيء هذا الوفد.     فاليهود كانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد، والنصارى كانوا يقولون بالتثليث وألوهية عيسى وأما محمد فلقد كان يدعو الى توحيد الله والى الوحدة اللروحية تنتظم العالم من أزله إلى أبده.
دعا محمد اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة  (8) : "قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم  ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون ."
فأما اليهود فقد كان بينه وبينهم عهد الموادعة ، وتشاور النصارى ثم أعلنوا إليه أنهم سيتركوه على دينه ويرجعوا إلى دينهم. وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم وبعث معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح.

وبدأ محمد وأصحابه يفكرون بالعودة الى مكة.





(1)   أبي الحسن على الحسني الندوي، السيرة النبوية.المطبعة العصرية للطباعة والنشر. د.ت. ص.225
(2)   سورة الأنفال آية 26
(3)   محمد حسين هيكل ، حياة محمد ص234
(4)   نفسه  ص 236   
(5)   سورة المائدة  الآيات  49 – 50
(6)   سورة البقرة   الآيات      144 
(7)   سورة البقرة   آية 142 ، 143  
(8)   سورة آل عمران  آية  64     


No comments:

Post a Comment