Friday, January 8, 2016

8-1-2016


فاطمة.. الى جنات الخلد 


  8-1-2016  



في مثل هذا اليوم من العام الماضي انتقلت الى رحمة الله فاطمة التي عاشت بيننا أكثرمن خمسين عاما وكانت من أهم أركان المنزل ولقد كتبت بعض الكلمات بعد وفاتها وسأستعرض بعضها:

الى جنات الخلد

ملاقط الغسيل في العلبة في غرفتي, ومفتاح خزانتي ضعيه في حقيبتي ,, آخر كلماتها لي وأنا استعجلها لأن السيارة وصلت لتأخذها الى أختها ومن ثم الى المستشفى
"خلاص خلاص لن أخلطهم مع ملاقط غسيلنا كوني مطمئنة  وكذلك مفتاح خزانتك وضعته في حقيبنك " هذه آخر كلماتي لها.
وصلنا بعد عناء وأزمة سيارات الى المستشفى ، فتحنا الباب لتنادى إحدى أخواتها "ها هم حبايبك وصلوا:"
نظرت اليها وهي تفتح عيونها  بصعوبة وتبتسم  وإذا بأختها تقول "مش معقول مش معقول,, ابتسامة يا ربي لن انساها  إنها في غيبوبة كيف فتحت عيونها " اقتربنا منها ونحن نقول " يالله يالله تحسني بسرعة لنذهب سويا الى البيت " وتتسع ابتسامتها وتنزل دمعة من عينها ونعيد ونقول:" كلها كم يوم وتخرجين من المستشفى ونعود الى البيت حيث الكل في انتظارك,,,"
أي خروج وهي موصولة بالأجهزة ومعظم أعضائها توقفت عن العمل، تنظر إلينا وتختلط دموعنا ونعلم أنها النظرة الأخيرة بيننا وأننا لن نرها بعد الان.
خرجنا من الغرفة بعد أن ودعنا أخواتها ونحن كلنا نجهش بالبكاء وكل واحدة منا تقول في سرها ، الوداع الوداع
وصلنا البيت لنجد الوالدة في أسوأ حالاتها فنحن لا نتركها أبدا ولكن زيارة المستشفى كان لا بد منها ، تنظر الى وكأنها تقول "كيف تركتيني لوحدي مع المساعدة"؟؟؟ وأحاول أن أشرح لها بأني كنت في مهمة ضرورية ولكن هيهات تستوعب ما أقول وأنا أتحاشى ذكر المستشفى والزيارة الأخيرة
حاولنا أنا وما تبقى من إخوتي تذكر السنة التي انضمت إلينا بها، أحد منا لم يذكر بالتحديد ، قلت أنا ربما كان عام 1964 او بداية 1965 لأننا عندما ذهبنا الى أنجلترا عام 1966 كانت ما زالت لم تعتد التحدث بلهجتنا وكان يختلط عليه القاف والكاف !!!
خمسون عاما وهي ركن مهم في البيت ما تعرفه عن خبايا البيت لا أحد يعرفه، يكفي أن يقول أحدنا : أين يا ترى الصور القديمة التي كنا نراها باستعمال جهاز projector  لتقفز قائلة إنهم بالدرج الأخير من الخزانة التي في الممر.
أين فناجين القهوة المرة (السادة) التي أحضرتهم لنا مها (رحمها الله ) من السعودية ؟ لتركض الى مكان لا يعرفه أحد وتزيل الأكياس التي لفتهم بها كيس بعد كيس ..
هي تعرف أين يوجد كل شيء في المنزل وفي المجمد وفي الثلاجة. كيف كانت تعرف كل شيء؟؟ الحقيقة أنها كانت تمرن ذاكرتها دائما، كانت تعيد ترتيب الخزائن والثلاجات والمجمد دائما لذلك كانت تحفظ اين تجد كل ما تسأل عنه.
توقفت أختى لحظة لما ذكرت لها كيف جاءت السيارة لتأخذها لبيت أختها ثم الى المستشفى ثم قالت: ما قصة ملاقط الغسيل ؟؟ ضحكت وقلت لها إنها (موسوسة ) بدرجة كبيرة وتفوقت على وسوسة أمي ، فهي عندها الحبل الخاص الذي تنشر عليه ملابسها والملاقط الخاصة بها والتي لا يمكن ان تخلطها مع (ملاقط الغسيل التي تستعملها لنشر غسيلنا.)  ثم لديها أدوات الأكل الخاصة بها لا يمكن أن تستعمل غيرها ملعقتها ، شوكتها وسكينتها وصحنها ويا  ويل من  تحدثه نفسه باستعمال أحد أدواتها الخاصة.

بعد حوالى عشرة سنوات من وجودها معنا رأينا أنه يجب أن يكون معها أحد يساعدها وفعلا انضمت إلينا شابة من ألطف ما يكون ومهما حاولنا أن نقنعها بأنها جاءت لمساعدتك ومع انهما عاشتا سويا لأكثر من ست عشرة سنة أخرى إلا أنها لم تقتنع بوجودها وكانت دائما تقول لا يوجد مثل بنت البلد أبدا. وهكذا كان حالها مع كل مساعدة تأتي لمساعدتها.
كانت أكبر مصيبة عندها خراب التلفزيون الخاص بها ، كانت تأتي إلى كالأطفال تبكي: لم أصبه هو لوحده خرب !! سامحني الله كنث أتثاقل من الصعود لتصليحه ولكن مع هذا كنت أسير وراءها وأقول: " يالله لنشوف شو المشكلة",, أحيانا كثيرة كنت لا أفعل سوى إغلاقه وفتحه مرة أخرى فيعود يعمل كالساعة وأحيانا أخرى اضطر للإتصال بالشخص المختص وأرجوه أن يأتي بأقرب فرصة لأن التلفزيون متعتها الوحيدة.
من خصالها الغريبة أنها كانت تكتشف أي خراب بالبيت، فكما كانت تدرب ذاكرتها على حفظ أماكن الاغراض في داخل المنزل ، كانت عندها جولة يومية كلما سمح الطقس حول البيت وتفقد الحنفيات بالحديقة والمزاريب وكانت تصعد تتفقد خزانات المياه وتفتح بئر الماء وتغلقه كلما شعرت أن المياه ستنفذ.
أما شغفها بالزراعة فكان بالفعل غريب جدا ، كانت كما يقولون يدها خضراء، كلما زرعت شيئا ينبت ويترعرع ، رأت مرة بذرة الأفوكادو وتسائلت هل لو زرعتها تنبت ، قالت لها شقيقتي جربي بعد أن طلبت منها أن تتركها بالماء قليلا ، المهم أنها زرعت عدة بذور ومرت الأيام لتكبر الشجرة وتثمر ونأكل من ثمرها وظلت تقول سأذهب لأرى شجرتي وزرعت عشرات البذور ووزعناهم على الأهل والأصدقاء ولا أعرف إن نجحت الشجرة عند أحد كنجاحها في حديقتنا والتي جاوز ارتفاعها سطح المنزل.
وأصبحت كلما أريد أن أزرع نبتة أطلب منها أن تضعها بالتراب وآخر نبتة زرعتها كانت الشمعة وها أنا أراقب نموها وادعو لها بالرحمة كلما رأيت المزروعات التي زرعتها تنمو وتترعرع.

كانت تحرص على الصيام والصلاة ولا تفوت فرض علما بأنها لم تحفظ ولا سورة من القرآن ، لكن بينها وبين ربها كانت تتمتم ببدايات آيات فقط ومن المؤكد أن صلاتها ودعاءها كانا مستجابان . وكان من عادتها الصيام قبل بدء رمضان بيوم حتى كما تقول تعتاد على الصيام . في أحد السنين قرروا بدء رمضان فجأة لا أذكر بالتحديد كيف وثارت ثائرتها كيف لم تصم اليوم السابق.
كانت تنصب نفسها مراقبا للعمال كلما احتجنا لعامل في البيت، فلا تتركهم أبدا تراقب أعمالهم وتنتقدهم أثناء عملهم تأمرهم بالتنظيف بعد أن ينتهي عملهم، وإن طلب أحدهم شيء كانت تسرع وتلبي طلبهم وكانت تحتفظ بكمية كبيرة من المسامير والأسلاك بعلبة خاصة قائلة ربما نحتاجهم يوما. وكنت أظن ان العمال يتضايقون منها وأحاول أن أشغلها بشيء آخر حتى تتركهم يعملون بهدوء، إلا أنني اكتشفت مدى حبهم لها بعد وفاتها فمصلح التلفزيون كاد يبكي عندما أخبرته بوفاتها وقال : والله أحضرت لها سلكا خاصا لتلفزيونها وكنت أريد تركيبه لها. وكذلك عمال الأدوات الصحية تأثروا كثيرا لسماع نبأ وفاتها.
كانت والدتها حبها الوحيد في الحياة , إن ضيفها أحد حبة حلوى كانت تقول لن آكلها سأخبئها لوالدتي ، وكنا ننهرها ونطلب منه أن تأكلها  ، الحلوى متوفرة في كل وقت يمكنك أخذ المزيد عندما تزوري الوالدة. والحقيقة أن والدتها كانت سيدة مكافحة ربت رهط من البنات وولد وحدها بمساعدة ابنتها الوحيدة التي تعمل. فكانت في نهاية كل شهر تذهب اليها وتسلمها راتبها  كاملا ولا تأخذ منه قرشا واحدا .وبعد وفاة والدتها أقنعها بعض من أهلها ان تكف عن العمل  وتعيش معهم . زارونا في البيت وقالوا سنأخذها معنا. سألتها والدتي: "هل هذا ما تريديه أنت ؟؟" أجابت : "أنا بعد وفاة والدتي لا أريد أن أعمل أريد أن أتقاعد. "
كما تريدين قالت والدتي هذه حياتك. ونحن سنؤمن لك مبلغا من المال شهريا يكفي احتياجاتك ستجدية في حسابك في بداية كل شهر. صعدت الى غرفتها وأخذت ملابسها
كلنا تفاجئنا لسلوك اهلها بعد عشرة ثلاثين عاما لاسيما وأن والدتي كانت في ذلك الوقت في أشد الحاجة للمساعدة إذ كانت رجلها مكسورة ولكن كل شيء انتهى ورضخت لرغبة أختها  وزوجها وهو ابن عمها في نفس الوقت. وحملت حقيبة ملابسها وخرجت لتعيش مع أختها.
مرت الأيام والأشهر ولم نسمع عنها شيئا وبعد سنة ونصف بالضبط وجدناها تقف أمام باب البيت مع أختها الأرملة وتطلب منا أن نعيدها الى عملها لأنها لم تستطع التأقلم مع أختها وزوجها ، وذهبت لتسكن مع أختها الأرملة لكنها أيضا لم تستطع العيش معها وأولادها وهي التي اعتادت العيش في غرفة خاصة بها مع حمامها الخاص، وقالت أختها لا أحد يريدها ضعوها عندكم بلا راتب فقط بأكلها وشربها.
حزنا جدا لنسمع أن لا أحد يريدها في بيته. فقالت لها والدتي الى غرفتك رأسا ستجديها كما تركتيها.
وبدأت حقبة جديدة في البداية قالت أنها لا تريد الذهاب لزيارة أي أحد من عائلتها ولكن بعد عدة أشهر قررت أن تزور أختها وإبن عمها.
وحتى الآن لم نعرف ما حصل بينها وبين أهلها ولماذا ضاقت بالعيش مع أختها وإبن عمها،  وهي لم تنبس ببنت شفة عن أي فرد من أفراد عائلتها. ولكنها كانت  تقول دائما ان  لا أحد فيه خير منهم .
بالنسبة لنا كانت جزء مهم في البيت فخلال الفترة التي تركتنا بها كان عندنا من يساعدنا لكن المشكلة كانت بأن أحدا منا لا يعرف كيف يعثر على الأغراض ، فمثلا جاء العيد واضطررنا لشراء فناجين قهوة لأننا لم نعرف أين تضعهم وكذلك كان علينا شراء إبريق للقهوة السادة لأننا أيضا لم نجد إبريق القهوة وهكذا دواليك.
في بداية عام 2009 بدأت صحتها تتدهور وبعد فحوصات طويلة وأكثر من عملية تنظير تبين ان كبدها في حالة سيئة جدا وأن لا علاج له ، واقتصر عملها على الإشراف على الغسيل وبدأت تشكو من عينها ولكن الطبيب رفض أن يجرى لها عملية الماء الأزرق لأن كان يخاف أن لا تنجح العملية وتخسر ما تبقى لها من النظر ، لاسيما وأن عينها الأخرى كانت لا ترى بها. وظللنا نتردد على طبيب الأسنان ليصلح لها طقم أسنانها وصرت كلما ذهبت الى طبيب الأسنان ترافقني لينحت لها من هنا أو هناك.
وظلت على نفس الوتيرة في حياتها اليومية مراقبة للمساعدة ، البحث عن الخراب وتفقد مواسير المياه وتفقد بئر الماء وخزانات المياه الى ذلك اليوم الذي أصيبت بالنزف من المريء ودخلت المستشفى وقال لنا الطبيب انه لا أمل في نجاتها وتنقلت بين المستشفى وبيتنا وبيت أختها.
وكانت كلمتها التي تردها دائما : أنا هنا في هذا البيت لن أخرج منه أبدا ونقول لها بالتأكيد هذا بيتك وعاشت بالرغم من أوجاعها عشرة أشهر تكابر وتؤكد لنا ان كل شيء تمام معها وأنها لن تترك البيت ، الى أن جاءت لي راكضة تقول أن رجلها تؤلمها كثيرا وكلمت أختها وقلت لها سأرسلها الآن لتراجع طبيبها وجاء محمد الشهم الذي اعتاد توصيلها الى بيت أختها عندما شرحت له الحالة. ترك عمله وكان بالباب خلال عشر دقائق . ووضعت لها بعض الملابس في حقيبتها وهي تشير لي بأن أضع ملاقط غسيلها في العلبة الخاصة بها وأصرت على أخذ مفتاح خزانتها معها.
وخرجت مع محمد وهي تنظر النظرة الأخيرة للبيت الذي عاشت به أكثر من خمسين عاما وبعد زيارتنا لها في المستشفى بيومين اتصلت أختها لتقول انها انتقلت الى رحمة الله يوم الخميس 8 كانون الثاني 2015 .
ولقد خسرنا ركنا اساسيا في البيت ولا تمر ساعة دون أن نذكرها ونترحم عليها فكل شيء بالبيت يذكرنا بها ولم نخبر والدتي بوفاتها وشاءت الظروف أن تنتقل والدتي الى رحمة الله يوم الثلاثاء 6 تشرين الأول 2015 . وبهذا فقدنا أهم أركان البيت خلال عام واحد. رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناتة. 

*** شجرة الأفوكادو التي زرعتها



No comments:

Post a Comment