Tuesday, January 3, 2012

خرائط أمي



خرائط أمي


ماذا تأخذ الزوجة عندما ترافق زوجها إلى مكان عمله خارج الوطن ، أي إجابة ستتضمن : مجوهراتها ، معطف الفراء الثمين ، مجموعة الحلي التقليدية والملابس الشعبية  التي ممكن أن ترتديها في  المناسبات الوطنية الخ...
لكن أمي لم تأخذ أي من هذه الأشياء ..
حملت أمي ماكنة الخياطة ، ومظروف بني اللون يحتوي على الخرائط التي أعدتها وهي في الصف الثالث الإبتدائي ،،،
ما قصة الخرائط ؟؟؟ لن يصدقني أحد  ان قلت ان أمي تذكر الخرائط يوميا وتأسف على ما ضاع منها ، ليس بسبب إهمالها بل بسبب ثقتها ببعض الأشخاص الذين لم يحفظوا الأمانة.
أول هؤلاء الأشخاص مديرتها  " ........... " فلقد طلبت منها أن تأخذ إحدى الخرائط معها الى طرابلس لتريها للطالبات هناك ولتتباهى بأن إحدى طالباتها استطاعت وهي في الصف الثالث الإبتدائي أن تقوم بإعداد  هذة الخرائط.

رضخت أمي وكانت متأكدة بأن مديرة المدرسة لا بد أن تكون صادقة ، كيف وهي تعلمهم الصدق وتربيهم على الأمانة. ومضت الأيام ولم تعد المديرة إلى عمان وبقيت أمي تنتظر لربما عادت يوما ما.
أما الخارطة الأخرى المفقودة فلقد أستعارتها قريبة  زوجها المدرسة في دار المعلمات وذلك لتطلع  الطالبات اللواتي يدرسن ليصبحن معلمات كيف تمكنت فتاة في الصف الثالث الإبتدائي من إعداد هذا النوع من الخرائط الطوبوغرافية.

فرحت أمي على ما يبدو وأعطتها الخريطة شريطة إعادتها في عطلة نهاية الأسبوع ، إلا أن المعلمة لم تكن أحرص من المديرة على خرائط أمي ، فعادت في نهاية الأسبوع وزارت أمي ولم تحضر معها الخارطة ، ولما سألتها أمي عنها أجابت بلا مبالاة بأن الحبر انسكب عليها ورأت أن ترميها ولا تحضرها لها وهي متسخة .
ولأن أمي كانت مسالمة ، تقول أنها سكتت في ذلك الوقت او بالأحرى صدمت بعدم الأمانة وبالإستهتار الذي كان أبطالة مديرة مدرسة و مربية أجيال ومعلمة من المتوقع أن تصبح أيضا مديرة وربما مفتشة في وزارة التربية والتعليم !!!!!

لذلك حرصت أمي على ما تبقى لديها من خارطة العالم وقررت أن لا تترك خرائطها أبدا وان لا تسلمهم لأي شخص مهما كانت حجته. فهي تخرجهم من المظروف البني في كل مناسبة يتكلم أحد الضيوف أو الأقرباء عن أيام الدراسة وعن نبوغهم بالمدرسة – وتقول لهم هل تعرفون في أي صف كنت عندما أعددت هذه الخرائط -  والحقيقة كان وما زال الكل يتفاجأ من قدرة فتاة صغيرة على القيام بهذا العمل المتقن . وكنا نلحظ السرور على وجهها كلما امتدح أحد الخرائط وكانت دائما تنظر إلينا وكأنها تقول من منكم سيكمل خارطة العالم هذه ؟؟            

مضت السنوات وتنقلنا في عدة بلدان وعدنا في النهاية الى عمان،  ومع السنين أصبحت ذاكرة أمي القديمة تتجدد أكثر فأصبحت تسرد علينا المزيد من القصص القديمة جدا والتي لم نكن قد سمعناها من قبل مع الكثير من التفاصيل ومن هذه القصص حكاية غريبة تلوم نفسها كلما ذكرتها لنا.                  

تقول: " كنت في أحد الأيام أمر أمام منزل مديرتي وكان باب المنزل مفتوحا، فنظرت بدافع الفضول الى داخل المنزل لأرى الخارطة التي أخذتها المديرة في برواز مخملي معلقة على الحائط واحترت في أمري ماذا أفعل هل أدخل وأنا لا أملك الجرأة على مواجهة مديرتي،  وماذا إن كانت المديرة قد أعطت الخارطة لإبنها الذي يعيش في المنزل الآن ، كيف سيقتنع انني صاحبة هذه الخارطة؟؟ "
تزيد قائلة " تابعت سيري وأنا أتلفت خلفي لعل أحدا يركض ورائي ويعيد إلي أحد أعز ممتلكاتي ، ولكني لم أسمع غير صوت السكون ولم أشعر إلا بمزيد من القهر والأسى".
وقبل عدة شهور كانت أمي تقرأ الجريدة كعادتها كل صباح لأجدها تترك الجريدة وتسرع إلى غرفتها وتحضر مقصها الشهير وتقطع جزءا من الجريدة ، في البداية استغربت ما هذا الشيء الذي اقتطعته أمي ؟؟ قلت سأنتظر لعلها تشرح لي فيما بعد ما هو هذا الخبر المهم الذي أرادت الإحتفاظ به.
بعد لحظات رأيتها تتجه نحوي وتقول: " يجب عليكم الذهاب للعزاء اليوم " قلت لها بمن ؟؟ لقد قرأت الجريدة قبلك ولم أعرف أحدا من المتوفين.
أجابت:" إنه إبن مديرتي التي أخذت الخارطة" ، نظرت إليها وقلت : كيف ونحن لا نعرف أحدا منهم ؟؟ ماذا تقولين أنت؟؟
قالت:" ما عليكم إلا الذهاب والنظر الى الحيطان لعل الخارطة ما زالت هناك ". ماذا تقولين لقد مر أكثر من خمسين أو ستين عاما على ذلك اليوم الذي رأيت به الخارطة في منزلهم.
تغيرت تعابير وجهها وتحول التفاؤل إلى خيبة أمل وأنا أتابع تغير تعابيروجهها فكرت بصديقتي سناء سأكلمها وأسألها إن كانت تعرف هذه العائلة.

أجابت سناء  الهاتف رأسا على غير عادتها ، وحكيت لها القصة من البداية للنهاية وكادت أن تبكي من تأثرها ، وقالت نعم أعرفهم فالمديرة كانت صديقة والدتي ، وحفيدتها كانت صديقتي إلا انها مرضت قبل عامين وتوفاها الله . وزادت قائلة أما إمكانية أن تحتفظ العائلة بممتلكات الجدة فهذا شيء غير وارد إطلاقا ، فأنت تعرفين هذا الجيل إنهم لا يحافظون على أغراضهم فكيف نتوقع أن يحتفظوا بمقتنيات أجدادهم.
كان كلام سناء منطقيا واعتذرت لأمي طالبة منها أن تنسى قضية الخرائط لعل شقيقتي الفنانة تكمل لها يوما ما المجموعة وتكتمل خارطة العالم . لم تقتنع أمي وما زالت تحكي قصة الخرائط وتنتظر قدوم الصيف لتخبر بقية الأحفاد ،،،

ملاحظة : الصور لبعض الخرائط التي ما زالت لديها وهناك خرائط أخرى غير مكتملة ربما كانت تنوي  إعداد  خارطة مصغرة للعالم 


No comments:

Post a Comment